فصل: تفسير الآيات (16- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8- 15):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}
قوله: {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} أي: على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم {وَمُبَشّراً} بالجنة للمطيعين {وَنَذِيرًا} لأهل المعصية {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قرأ الجمهور {لتؤمنوا} بالفوقية. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتحتية، فعلى القراءة الأولى: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته، وعلى القراءة الثانية المراد: المبشرين والمنذرين، وانتصاب {شاهداً ومبشراً ونذيراً} على الحال المقدرة {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ} الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة الأفعال كالخلاف في: {لّتُؤْمِنُواْ} كما سلف، ومعنى تعزروه: تعظموه وتفخموه؛ قاله الحسن، والكلبي، والتعزير: التعظيم والتوقير.
وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه.
وقال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، ومعنى توقروه: تعظموه.
وقال السديّ: تسوّدوه، قيل: والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم وهنا وقف تام، ثم يبتدئ: وتسبحوه أي: تسبحوا الله عزّ وجل: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: غدوة وعشية، وقيل: الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عزّ وجلّ، فيكون معنى تعزروه وتوقروه: تثبتون له التوحيد، وتنفون عنه الشركاء، وقيل: تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله. وفي التسبيح وجهان، أحدهما: التنزيه له سبحانه من كل قبيح، والثاني: الصلاة. {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يعني: بيعة الرضوان بالحديبية، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم هي بيعة له كما قال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وجملة: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل، في محل نصب على الحال، والمعنى: أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت.
وقال الكلبي: المعنى: إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء.
وقال ابن كيسان: قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي: فمن نقض ما عقد من البيعة، فإنما ينقض على نفسه؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} أي: ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور {عليه} بكسر الهاء وقرأ حفص، والزهري بضمها {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنة. قرأ الجمهور {فسيؤتيه} بالتحتية، وقرأ نافع، وقرأ كثير، وابن عامر بالنون، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية. قال مجاهد، وغيره يعني: أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، والدئل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة.
وقيل: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه، والمخلف: المتروك {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} أي: منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال، والنساء، والذراري، وليس لنا من يقوم بهم، ويخلفنا عليهم {فاستغفر لَنَا} ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم، فضحهم الله سبحانه بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} وهذا هو صنيع المنافقين، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم، ويجوز أن تكون بدلاً من الجملة الأولى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم، فقال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً} أي: فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشرّ، ثم بيّن ذلك، فقال: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} أي: إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل. قرأ الجمهور {ضرًّا} بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضرًّا. وقرأ حمزة، والكسائي بضمها وهو اسم ما يضرّ، وقيل: هما لغتان {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي: نصراً وغنيمة، وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع عنه الضرّ، ويجلب لهم النفع. ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وقال: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: إن تخلفكم ليس لما زعمتم، بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك، بل للشك والنفاق، وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله، ولهذا قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وهذه الجملة مفسرة لقوله: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} لما فيها من الإبهام، أي: بل ظننتم أن العدوّ يستأصل المؤمنين بالمرة، فلا يرجع منهم أحد إلى أهله، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة {وَزُيّنَ ذَلِكَ في قُلُوبِكُمْ} أي: وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه. قرأ الجمهور: {وزين} مبنياً للمفعول، وقرئ مبنياً للفاعل {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} أن الله سبحانه لا ينصر رسوله، وهذا الظن إما هو الظنّ الأوّل، والتكرير للتأكيد والتوبيخ، والمراد به: ما هو أعمّ من الأوّل، فيدخل الظنّ الأوّل تحته دخولاً أوّلياً {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى، قال الزجاج: هالكين عند الله، وكذا قال مجاهد. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال أبو عبيد {قَوْماً بُوراً}: هلكى، وهو جمع بائر، مثل حائل وحول، وقد بار فلان، أي: هلك، وأباره الله: أهلكه.
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله، أي: ومن لم يؤمن بهما، كما صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعدّه الله لهم من عذاب السعير {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} يتصرّف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء، ولهذا قال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: كثير المغفرة والرحمة، بليغها يخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده. {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} المخلفون هؤلاء المذكورون سابقاً، والظرف متعلق بقوله: {سَيَقُولُ} والمعنى: سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون {إلى مَغَانِمَ} يعني: مغانم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا} لتحوزوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي: اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر. وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم، فقال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} أي: يغيروا كلام الله، والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدّلوه: هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر.
وقال مقاتل: يعني: أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم.
وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} [التوبة: 83] واعترض هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة، والأوّل أولى، وبه قال مجاهد، وقتادة، ورجحه ابن جرير، وغيره. قرأ الجمهور {كلام الله} وقرأ حمزة، والكسائي {كلم الله} قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والكلم لا يكون أقلّ من ثلاث كلمات؛ لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم من الخروج معه، فقال: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} هذا النفي هو في معنى النهي، والمعنى: لا تتبعونا {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي: من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب {فَسَيَقُولُونَ} يعني: المنافقين عند سماع هذا القول، وهو قوله: {لَّن تَتَّبِعُونَا} بل {تَحْسُدُونَنَا} أي: بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلاّ الحسد؛ لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك بقول الله كما تزعمون، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يعلمون إلاّ علماً قليلاً، وهو علمهم بأمر الدنيا، وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلاّ فقهاً قليلاً، وهو ما يصنعونه نفاقاً بظواهرهم دون بواطنهم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَتُعَزّرُوهُ} يعني: الإجلال {وَتُوَقّرُوهُ} يعني: التعظيم، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه في قوله: {وَتُعَزّرُوهُ} قال: تضربوا بين يديه بالسيف.
وأخرج ابن عديّ، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَتُعَزّرُوهُ} قال لأصحابه: «ما ذاك»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «لتنصروه».
وأخرج أحمد، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجنة، فمن وفى وفى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
وفي الصحيحين من حديث جابر: أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة. وفيهما عنه: أنهم كانوا أربع عشرة مائة. وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، فقال له: إن جابراً قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال رحمه الله: وهِم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.

.تفسير الآيات (16- 24):

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}
قوله: {قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} هم المذكورون سابقاً {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخراساني: هم فارس.
وقال كعب، والحسن: هم الروم.
وروي عن الحسن أيضاً أنه قال: هم فارس، والروم.
وقال سعيد بن جبير: هم هوازن، وثقيف.
وقال عكرمة: هوازن.
وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين.
وقال الزهري، ومقاتل: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية. قال الزجاج: التقدير: أو هم يسلمون، وفي قراءة أبيّ {أو يسلموا} أي: حتى يسلموا {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} أي: تعرضوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} وذلك عام الحديبية {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة؛ لتضاعف جرمكم. {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي: ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو؛ لعدم استطاعتهم. قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية، والحرج: الإثم {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمراه به ونهياه عنه {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر} قرأ الجمهور {يدخله} بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون {وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} أي: ومن يعرض عن الطاعة يعذبه الله عذاباً شديد الألم. ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم، وشهدوا بيعة الرضوان، فقال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} أي: رضي الله عنهم وقت تلك البيعة، وهي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، والعامل في {تَحْتِ} إما يبايعونك، أو محذوف على أنه حال من المفعول، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية وقيل: سدرة، وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشاً، ولا يفرّوا.
وروي أنه بايعهم على الموت، وقد تقدّم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريباً، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير. {فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} معطوف على يبايعونك، قال الفراء: أي: علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء.
وقال قتادة، وابن جريج: من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا.
وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} معطوف على رضي، والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس، كما تقدّم، وقيل: الصبر {وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية، قاله قتادة، وابن أبي ليلى، وغيرهما، وقيل: فتح مكة، والأوّل أولى.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثابكم مغانم كثيرة، أو وآتاكم، وهي غنائم خيبر، والالتفات لتشريفهم بالخطاب {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي: غالباً مصدراً أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة. {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي: غنائم خيبر، قاله مجاهد وغيره، وقيل: صلح الحديبية {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي: وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح، وقيل: كفّ أيدي أهل خيبر، وأنصارهم عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب.
وقال قتادة: كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وخيبر، ورجح هذا ابن جرير، قال: لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} وقيل: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ الناس عَنْكُمْ يعني: عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} اللام يجوز أن تتعلق بفعل محذوف يقدّر بعده، أي: فعل ما فعل من التعجيل والكفّ؛ لتكون آيةً، أو على علة محذوفة تقديرها: وعد فعجل وكفّ؛ لتنتفعوا بذلك؛ ولتكون آية. وقيل: إن الواو مزيدة، واللام لتعليل ما قبله، أي: وكفّ لتكون؛ والمعنى: ذلك الكفّ آية يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يعدكم به {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} أي: يزيدكم بتلك الآية هدى، أو يثبتكم على الهداية إلى طريق الحقّ {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} معطوف على هذه، أي: فعجل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها، وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم ونحوهما، كذا قال الحسن، ومقاتل، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك، وابن زيد، وابن أبي إسحاق: هي خيبر وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها، وقال قتادة: فتح مكة، وقال عكرمة: حنين، والأوّل أولى {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} صفة ثانية لأخرى. قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها، والمعنى: أنه أعدّها لهم، وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم، وقيل: معنى {أحاط}: علم أنها ستكون لهم {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} لا يعجزه شيء، ولا تختصّ قدرته ببعض المقدورات دون بعض. {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} قال قتادة: يعني: كفار قريش بالحديبية، وقيل: أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر، والأوّل أولى.
{ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يواليهم على قتالكم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم عليكم. {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي: طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه، وانتصاب {سنة} على المصدرية بفعل محذوف، أي: بيّن الله سنة الله، أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدّمة {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي: لن تجد لها تغييراً، بل هي مستمرّة ثابتة {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: كفّ أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدّون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه عن البيت عام الحديبية، وهي المراد ببطن مكة. وقيل: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبيّ من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وفي الرواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} يقول: فارس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: فارس، والروم.
وأخرج الفريابي، وابن مردويه عنه قال: هوازن، وبني حنيفة.
وأخرج الطبراني، قال السيوطي: بسند حسن عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى، فقال: كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ} الآية. قال: هذا في الجهاد، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئًا لابن عفان يطوف بالبيت، ونحن ها هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها، فأمر بها فقطعت.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل: على أي شيء كنتم تبايعونه يومئذ؟ قال: على الموت.
وأخرج مسلم، وغيره عن جابر قال: بايعناه على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن جابر، عن النبي قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
وأخرج مسلم من حديثه مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: الفتح.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} يعني: أهل مكة أن يستحلوا حرم الله، ويستحلّ بكم وأنتم حرم {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} قال: سنة لمن بعدكم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً في قوله: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} قال: هي خيبر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}.
وفي صحيح مسلم، وغيره: أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية.
وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل في سبب نزول الآية: أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح، فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أماناً»؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فنزلت هذه الآية.